عن الحرب على مترشحي الجنسيات الأجنبية في تونس - news

احدث المواضيع

Home Top Ad

الجمعة، 30 أغسطس 2019

عن الحرب على مترشحي الجنسيات الأجنبية في تونس

حين أثار الكاتب الصحافي والمرشح الرئاسي التونسي، صافي سعيد، قضية "التجنيس" لدى المترشحين لانتخابات الرئاسة التونسية، منذ ما يزيد عن السنة، كانت إثارته لافتة وحمّالة أوجه، كما أنّ أسلوب طرحها ظلّت تتجاذبه الرؤى والتأويلات بين "قضية عادلة" يجب أن تثار وتنزّل منزلة حماية السيادة الوطنية، أو بين قضية مفتعلة، لا تزيد إثارتها عن تذكية مناخات التجاذب والمناكفة بين المترشّحين، فتكون النتيجة تأثيم حامل الجنسية الثانية، وتعميم ذلك التأثيم، ليشمل السياسيين وغير السياسيين من كل الدرجات؛ وفي ذلك تسييس لقضيةٍ أصولها حقوقية واجتماعية، أكثر مما هي موضوع للتجاذب السياسي، كما أنّ سوء إثارتها يمكن أن يمثّل تهديدا لمصالح التونسيين المهاجرين، ويربكها في وقتٍ هم أحوج ما يكونون لاهتمام جاد بمشاغلهم وقضاياهم. 
من دون التسرّع في عرض ترجيحات جازمة، علينا الحرص على تنسيب الأحكام و"عقلنتها" ما أمكن، في قضيةٍ تستقطب الرأي العام في تونس، ولا تنال إجماعه، وهو ما يقتضي مقاربتها من دون الإيغال في معيارية قياس الصفات الوطنية، ولا مواصفات الخروج عنها حدّ النعت بالخيانة، كما علينا أن لا نبالغ في التهوين والاستخفاف بالأمر، فتاريخ الشعوب لا يخلو من خياناتٍ في حقّ الأوطان، والخيانة لا تُعرض فقط في صورة "وزير الخزانة" الذي اختلس "ميزانية الدولة"، ليحتمي بها لدى "دولة الحماية"، ولا بالقائد العسكري الذي يتآمر على وطنه خدمة لأعدائه. علينا الانتباه إلى أن بعض مظاهر خيانة الأوطان ضاربٌ في القدم، لكن بعضها الآخر مستحدثٌ ومستجدٌ وملتبس، يتخفّى بعباءات حقوقية حينا، وبصفات الخبير أو المختص المنتسب لهيئات ومنظمات أممية وكونية، تخترق حدود الأوطان وسيادتها بأكثر من معنىً للاختراق، وبأشكال متجدّدة ومبتكرة، ولعلّ التجنيس هو أحد المصادر المحتملة للاختراق، وهو موضوع اهتمامنا في إثارة الحال.
علينا التأكيد على أن "التجنيس كمظهر من مظاهر خيانة الأوطان" كان موقفا وإجراء عبّرت عنه حركة التحرير الوطني في تونس خلال أحداث الجلاز في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني  1911، وما أعقبها من انتفاضةٍ، رفض خلالها التونسيون دفن المجنّسين في مقابر المسلمين، وقدّموا شهداء أبرارا فداء للوطن، ورفضا للتجنيس الذي يخدش الوطنية في تلك السياقات.
كان ذلك موقف التونسيين الذي عبّر عنه قادتهم السياسيون، وزكّاه علماء الزيتونة وأعلامها من دون مواربة، حين كانت تونس ترزح تحت الاستعمار ويستبح سيادتها وكلاؤه، بمن فيهم من تواطأوا من التونسيين. ولكن بعد معاهدة الاستقلال سنة 1956، وحين توفرت شروط السيادة الوطنية، هل استمرّ التنصيص على تجريم التجنيس، سواء بخلفية دينية أو سياسية أو قانونية؟
بعد جلاء الاستعمار الفرنسي عن الوجود المباشر في بلادنا، كان القرار الجلي بشأن موضوع التجنيس ما ورد في دستور 1957، وأبقى عليه دستور 2014 بأن يكون رئيس البلاد التونسية سليل أبوين تونسيين منذ الولادة، مع إضافة تنصيص أنّ على من يحمل جنسية أخرى التعهد بالتنازل عنها عند الفوز بثقة الناخبين. وكانت لسعي التونسيين المهاجرين، بأجيالهم المختلفة بعد الاستقلال، إلى نيل جنسية البلد المضيف، وكان عددهم الأكبر في فرنسا، أسباب عدة، أهمها ما يتّصل باللغة ويسر عمليات الإدماج المهني والثقافي، ولم تخل نسبة من هؤلاء المجنّسين ممن كانت دوافعهم لذلك طلب اللجوء السياسي هربا من التنكيل والاستبداد الذي بلغ أوجه زمن استبداد الرئيس بن علي، لكن المرحلة البورقيبية كانت المؤسسة لذلك، ولو بنسبٍ أقل من خلال مطاردة اليوسفيين ثم اليساريين والقوميين، وصولا إلى الإسلاميين.
في تلك السياقات، لم يكن الحصول على الجنسية، بالنسبة لعموم التونسيين، أمرا مرفوضا، لذلك علينا الفصل بين رفض التجنيس لدى القادة المباشرين لأعلى المناصب في الدولة، حماية لسيادتها، وتجنيس بقية التونسيين سعيا إلى الاستفادة من امتيازات علمية واجتماعية واقتصادية وحقوقية بصورة عامة، لم تخوّلها لهم بلادهم، لفشل مساراتها التنموية، وغياب العدالة الاجتماعية، وتنامي التفاوت الطبقي والجهوي فيها. علينا أن لا نقلب السؤال، ونبدّل اتجاه المحاسبة، لأن الميل إلى الهجرة، وخروج الكفاءات التونسية للبحث عن نيل فرص الدراسة والعمل، وبعد ذلك الحصول على الجنسية في دول الشمال، هو نتيجة مباشرة لسياسات الفشل التنموي، وتخبط الخيارات التي بدل أن تحقّق النهوض، أوصلت البلد إلى أن ينهب الاستعمار المباشر ووكلاؤه ثرواته وينتهك مقدّراته ويستغلها، تلك الحصيلة الهزيلة في التنمية، مقارنة بكل الدول الصاعدة المشابهة لبلداننا، هي التي أفضت إلى الهجرة والتهجير. وكان طلب جنسيات البلدان المضيفة في الشمال أحد مسالك التونسيين نحو تحقيق شروط العيش الكريم؛ فكيف لنا أن نعيب عليهم اختياراتهم التي دفعوا إليها اضطرارا؟ في حين أن المسؤولين الأصليين عن تلك الأوضاع، والذين يتحمّلون أوزارها، هم القادة الذين سادوا البلاد عقودا، وتحكّموا تحت إشراف وكلائهم الإقليميين والدوليين في مقدّرات المنطقة وخيراتها، هؤلاء هم الذين يجب تحميلهم مسؤولية الهجرة والتهجير لمئات الآلاف من شباب الأمة الذين يبحث بعضهم عن الجنسية مدخلا لتطبيع حياتهم وحياة الأجيال التي تعقبهم في المجتمعات الجديدة التي تحتضنهم.
حين يُحتمل أن يترشّح أحد التونسيين المقيمين في المهجر لمراكز سيادية أولى في وطنه  الأصلي، يجب التعامل مع وضعه كاستثناء، لا ينطبق قياسه على مئات الآلاف من نظرائه المجنسين، والاستثناء يحفظ ولا يقاس عليه. لذلك يطبّق تحجير تحمّل أصحاب الجنسيات المزدوجة لأهم مراكز سيادة الدولة، وهو تحجير منسجمٌ مع ما يطبّق في معظم دول العالم، من أكثرها تقدما إلى ما دون ذلك. خلاف ذلك، يصبح تناول الموضوع نوعا من الإسقاط غير المنسجم مع الضرورات الاجتماعية والتغيرات المجتمعية التي عاشتها أوطاننا خلال ما يزيد عن نصف القرن الأخير. أما الحديث عن الاستراتيجية الأسلم لتعامل مجتمعاتنا مع "الانجراف الديموغرافي" الذي تبتلى به مجتمعاتنا، فتخسر نسبة مهمة من مواردها البشرية عالية التأهيل، فتلك معضلةٌ يفترض تناولها في مجال أرحب وسياق ملائم لها، لأنّه من مخلّفات سياسات مراحل الاستبداد، أن يُنظر إلى الجاليات التونسية في المهجر أنّها خزّان انتخابي لشرعنة اختياراتٍ في طريقها للنفاذ بمشاركتهم أو دونها، أو أنّها مصدر مضمونٌ للعملة الصعبة، تضخّ باستمرار في ميزانية الدولة في مقابل وعود فلكلورية بتحسين وضعياتهم عند كل استقبال جديد لهم، عند وصول "باخرة الحبيب بهم لميناء حلق الواد".


from صحيفة العربي الجديد – صحيفة الزمن العربي الجديد https://www.alaraby.co.uk/opinion/2019/8/30/عن-الحرب-على-مترشحي-الجنسيات-الأجنبية-في-تونس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Bottom Ad

Pages