بعيداً عن التصنيفات العصرية للحروب، والتى جعلت منها أجيالا، ما بين حروب الأجيال، الأول والثاني والثالث، وجديدها حروب الجيلين الرابع والخامس.. بعيداً عن تلك التصنيفات التي اعتمدت على معيار التقدم التقني/ التكنولوجي لوسائل الصراعات وأساليبها بين الدول وأطراف الصراعات المختلفة، وخصوصا فى مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصال... بعيداً عن تلك التصنيفات التقنية للحروب، خرج علينا الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بتصنيفٍ مبتكر، لشكل جديد من الحروب، الحروب السخيفة، وخصّ بهذا التصنيف الحروب الدائرة فى منطقة الشرق الأوسط، وصفها بأنها حروب سخيفة، لا نهاية لها. وقال إن على أميركا أن تتخلّص من تلك الحروب، وتسحب قواتها من تلك المناطق، وأضاف أن شعوب تلك المنطقة يحارب بعضها بعضا منذ أكثر من مائتي عام من دون هدف أو نتيجة.
على أي الأحوال، وبعيداً عن التجاذبات الأميركية الداخلية، هذا التوصيف، على الرغم من فجاجته، هو الأقرب إلى الحقيقة. حرب اليمن التي أطلقتها السعودية قبل نحو خمس سنوات، تحت عنوان "عاصفة الحزم"، لم يتم الإعلان عن انطلاقها من الرياض، بل من واشنطن. أعلنت الولايات المتحدة، فى وقتها، دعمها تلك العاصفة الحازمة، والتي تحولت، في نظر ترامب، بعد خمس سنوات من القتل والخراب والدمار لشعب عربي، على يد عرب آخرين، إلى واحدة من "الحروب السخيفة" التي لا نهاية لها في المنطقة، وعلى أميركا أن تنفض يدها منها.
الحرب فى ليبيا: بعد أن تخلص الشعب الليبي، عبر ثورته، من حكم ديكتاتوري استبدادي، استمر أكثر من أربعين عاماً، شهدت ليبيا مرحلةً من الاضطراب السياسي، والتجاذبات الداخلية، دفعت المجتمع الدولي إلى التدخل فى محاولةٍ للم الشمل. وانتهى الأمر بالتوصل إلى اتفاق على تشكيل حكومةٍ عُرفت بحكومة الوفاق الوطني في العاصمة طرابلس، باعتبارها حكومة شرعية، تمثل ليبيا، مع وجود بعثة دولية للتوفيق بين مختلف الأطراف، لإدارة مرحلة انتقالية، كان مفترضا أن تنتهي بإقرار دستور للبلاد، وإجراء انتخاباتٍ حرّة. ولكن شاءت قوى إقليمية ودولية مختلفة أن تُفسد ذلك كله، فدفعت بضابط ليبي متقاعد، سبق أن شارك في حرب تشاد في زمن معمر القذافي، ووقع في الأسر، ثم أعلن معارضته القذافي، وتلقفته أميركا لاجئا لديها، ثم منحته الجنسية الأميركية، وهو الجنرال المتقاعد خليفة حفتر. تمكن من دخول ليبيا، وتمركز في بنغازي، وأنشأ جيشاً خاصاً من بقايا كتائب القذافي، ومن بعض أبناء القبائل في الشرق والجنوب الليبيين، وتلقى دعماً عسكرياً إقليمياً، ونصّب نفسه قائداً عاماً "للجيش الليبي". ومن دون الدخول في تفاصيل كثيرة معروفة، يشن حفتر حرباً ضروساً تهدف إلى الاستيلاء على العاصمة طرابلس، وكل الغرب الليبي. وهذه "حرب سخيفة" أخرى من حروب المنطقة، تغض أميركا عنها الطرف، فيما يعلم الجميع أنها تجري بموافقتها ومباركتها.
هناك حرب أخرى من حروب المنطقة التى يسعى ترامب إلى التخلص منها، حرب العراق، والتي أشعلتها أميركا نفسها في العام 2003. ومنذ ذلك التاريخ، والعراق يعيش حالة "حرب سخيفة"، ما بين عملية الغزو الأميركي، ثم حروب تنظيم القاعدة، والتى كان أشهر قادتها أبو مصعب الزرقاوي، إلى حروب تنظيم الدولة الإسلامية والخليفة المزعوم، أبو بكر البغدادي، وبقايا ذلك التنظيم، وظهور مجموعات المليشيات المتعدّدة. هكذا تحول العراق إلى منطقة حروبٍ غير آمنة، ويرى ترامب أن عليه أن يسحب منها القوات الأميركية باعتبارها "حربا سخيفة" ولا نهاية لها.
يرى ترامب أن كل هذه الحروب سخيفة، ولا هدف لها ولا جدوى منها، وأن تلك الشعوب تحارب بعضها بعضا، منذ أكثر من مائتي عام، من دون هدفٍ محدّد. وبالتالي، على أميركا أن تنأى بنفسها عن كل تلك الحروب، وتسحب قواتها من تلك المناطق، والأهم أنها لا تبذل أدنى جهدٍ لوضع حد لتلك الحروب، على الرغم من أنها تستطيع ذلك.
تبقى حربٌ أخيرة، لم يستثنها ترامب من تصنيفها بين "الحروب السخيفة" في المنطقة، وهى الحرب السورية، إلا أن تعامله معها كان مختلفاً تماماً. ولعل الفارق هنا يكمن في أن الحرب السورية ليست مثل باقي حروب المنطقة، فهي لا تدور رحاها بين السوريين أنفسهم وفقط، ولكنها حرب متعدّدة الأطراف الدولية والإقليمية والمحلية. فعلى الساحة السورية، بالإضافة إلى قوات نظام بشار الأسد، وقوات المعارضة السورية المسلحة، هناك قوات روسية وإيرانية وتركية وعراقية ولبنانية، وقوات كردية متعدّدة الهويات، إلى جانب مليشيات متطرّفة، وافدة من دول مختلفة. وبطبيعة الحال، القوات الأميركية وبعض من قوات فرنسية وبريطانية. وهناك العدو الإسرائيلي وتدخلاته العسكرية. وقرّر ترامب، في إطار خطته، سحب قواته من سورية، والتي تتمركز أساساً فى شمال شرق سورية، المنطقة المتاخمة للحدود التركية، المنطقة التي سمحت فيها الولايات المتحدة للحركات الكردية المتطرّفة، خصوصا عناصر حزب العمال الكردستانى، وقوات سوريا الديمقراطية، بالوجود والسيطرة عليها، بل وإنشاء إدارة ذاتية لتلك المناطق. وهو ما اعتبرته تركيا تهديدا مباشراً لأمنها القومي. ومن هنا، وبعد اتصالاتٍ مباشرةٍ ما بين ترامب والرئيس التركي أردوغان، وفى الأغلب، بتنسيق غير مباشر مع روسيا وإيران، وبعض دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بادرت تركيا إلى الإعلان عن إطلاق عملية عسكرية بعنوان "نبع السلام" بهدف تطهير المنطقة من الحركات الكردية المسلحة، وإنشاء منطقة آمنة بعمق ما بين 30 و40 كيلومتراً، تسمح بعودة ما بين مليون ونصف، ومليوني مهاجر ونازح سوري إلى بلدهم. وبدأت تركيا بالفعل "حربا جريئة"، وتعدّدت ردود الفعل العربية والإقليمية والدولية، وخصوصا الأميركية، ولكنها لم تتجاوز التنديد والشجب بالعملية التركية، والتي لم تعرها تركيا أي اهتمام. ولكن جاء رد الفعل الأميركي مختلفا تماماً، فبعد التنديد الشفوي، والتهديد بالعقوبات، أوفد الرئيس ترامب نائبه مايك بنس ووزير الخارجية مايك بومبيو، على رأس وفد رفيع، إلى أنقرة، وأجريا مباحثات طويلة وصعبة، انتهت بالاتفاق على وقف العملية العسكرية التركية، في مقابل تعهد أميركا بانسحاب كافة القوات الكرية لمسافة عشرين ميلا فى عمق الأراضى السورية على امتداد الحدود التركية، بالإضافة إلى سحب القوات الأميركية المقرّر. وبذلك يتم إنشاء المنطقة الآمنة. مع ملاحظة أن عملية تنسيق العمل في تلك المتطقة سيتم ما بين تركيا وروسيا، باعتبار الأخيرة تمثل نظام بشار الأسد.
يبقى السؤال: لماذا اختلف تعامل ترامب مع "الحروب السخيفة" التي تجري في المنطقة العربية عموماً عن تعامله مع "الحرب الجريئة" التي شنّتها تركيا في المنطقة أيضاً؟
الحرب فى ليبيا: بعد أن تخلص الشعب الليبي، عبر ثورته، من حكم ديكتاتوري استبدادي، استمر أكثر من أربعين عاماً، شهدت ليبيا مرحلةً من الاضطراب السياسي، والتجاذبات الداخلية، دفعت المجتمع الدولي إلى التدخل فى محاولةٍ للم الشمل. وانتهى الأمر بالتوصل إلى اتفاق على تشكيل حكومةٍ عُرفت بحكومة الوفاق الوطني في العاصمة طرابلس، باعتبارها حكومة شرعية، تمثل ليبيا، مع وجود بعثة دولية للتوفيق بين مختلف الأطراف، لإدارة مرحلة انتقالية، كان مفترضا أن تنتهي بإقرار دستور للبلاد، وإجراء انتخاباتٍ حرّة. ولكن شاءت قوى إقليمية ودولية مختلفة أن تُفسد ذلك كله، فدفعت بضابط ليبي متقاعد، سبق أن شارك في حرب تشاد في زمن معمر القذافي، ووقع في الأسر، ثم أعلن معارضته القذافي، وتلقفته أميركا لاجئا لديها، ثم منحته الجنسية الأميركية، وهو الجنرال المتقاعد خليفة حفتر. تمكن من دخول ليبيا، وتمركز في بنغازي، وأنشأ جيشاً خاصاً من بقايا كتائب القذافي، ومن بعض أبناء القبائل في الشرق والجنوب الليبيين، وتلقى دعماً عسكرياً إقليمياً، ونصّب نفسه قائداً عاماً "للجيش الليبي". ومن دون الدخول في تفاصيل كثيرة معروفة، يشن حفتر حرباً ضروساً تهدف إلى الاستيلاء على العاصمة طرابلس، وكل الغرب الليبي. وهذه "حرب سخيفة" أخرى من حروب المنطقة، تغض أميركا عنها الطرف، فيما يعلم الجميع أنها تجري بموافقتها ومباركتها.
هناك حرب أخرى من حروب المنطقة التى يسعى ترامب إلى التخلص منها، حرب العراق، والتي أشعلتها أميركا نفسها في العام 2003. ومنذ ذلك التاريخ، والعراق يعيش حالة "حرب سخيفة"، ما بين عملية الغزو الأميركي، ثم حروب تنظيم القاعدة، والتى كان أشهر قادتها أبو مصعب الزرقاوي، إلى حروب تنظيم الدولة الإسلامية والخليفة المزعوم، أبو بكر البغدادي، وبقايا ذلك التنظيم، وظهور مجموعات المليشيات المتعدّدة. هكذا تحول العراق إلى منطقة حروبٍ غير آمنة، ويرى ترامب أن عليه أن يسحب منها القوات الأميركية باعتبارها "حربا سخيفة" ولا نهاية لها.
يرى ترامب أن كل هذه الحروب سخيفة، ولا هدف لها ولا جدوى منها، وأن تلك الشعوب تحارب بعضها بعضا، منذ أكثر من مائتي عام، من دون هدفٍ محدّد. وبالتالي، على أميركا أن تنأى بنفسها عن كل تلك الحروب، وتسحب قواتها من تلك المناطق، والأهم أنها لا تبذل أدنى جهدٍ لوضع حد لتلك الحروب، على الرغم من أنها تستطيع ذلك.
تبقى حربٌ أخيرة، لم يستثنها ترامب من تصنيفها بين "الحروب السخيفة" في المنطقة، وهى الحرب السورية، إلا أن تعامله معها كان مختلفاً تماماً. ولعل الفارق هنا يكمن في أن الحرب السورية ليست مثل باقي حروب المنطقة، فهي لا تدور رحاها بين السوريين أنفسهم وفقط، ولكنها حرب متعدّدة الأطراف الدولية والإقليمية والمحلية. فعلى الساحة السورية، بالإضافة إلى قوات نظام بشار الأسد، وقوات المعارضة السورية المسلحة، هناك قوات روسية وإيرانية وتركية وعراقية ولبنانية، وقوات كردية متعدّدة الهويات، إلى جانب مليشيات متطرّفة، وافدة من دول مختلفة. وبطبيعة الحال، القوات الأميركية وبعض من قوات فرنسية وبريطانية. وهناك العدو الإسرائيلي وتدخلاته العسكرية. وقرّر ترامب، في إطار خطته، سحب قواته من سورية، والتي تتمركز أساساً فى شمال شرق سورية، المنطقة المتاخمة للحدود التركية، المنطقة التي سمحت فيها الولايات المتحدة للحركات الكردية المتطرّفة، خصوصا عناصر حزب العمال الكردستانى، وقوات سوريا الديمقراطية، بالوجود والسيطرة عليها، بل وإنشاء إدارة ذاتية لتلك المناطق. وهو ما اعتبرته تركيا تهديدا مباشراً لأمنها القومي. ومن هنا، وبعد اتصالاتٍ مباشرةٍ ما بين ترامب والرئيس التركي أردوغان، وفى الأغلب، بتنسيق غير مباشر مع روسيا وإيران، وبعض دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بادرت تركيا إلى الإعلان عن إطلاق عملية عسكرية بعنوان "نبع السلام" بهدف تطهير المنطقة من الحركات الكردية المسلحة، وإنشاء منطقة آمنة بعمق ما بين 30 و40 كيلومتراً، تسمح بعودة ما بين مليون ونصف، ومليوني مهاجر ونازح سوري إلى بلدهم. وبدأت تركيا بالفعل "حربا جريئة"، وتعدّدت ردود الفعل العربية والإقليمية والدولية، وخصوصا الأميركية، ولكنها لم تتجاوز التنديد والشجب بالعملية التركية، والتي لم تعرها تركيا أي اهتمام. ولكن جاء رد الفعل الأميركي مختلفا تماماً، فبعد التنديد الشفوي، والتهديد بالعقوبات، أوفد الرئيس ترامب نائبه مايك بنس ووزير الخارجية مايك بومبيو، على رأس وفد رفيع، إلى أنقرة، وأجريا مباحثات طويلة وصعبة، انتهت بالاتفاق على وقف العملية العسكرية التركية، في مقابل تعهد أميركا بانسحاب كافة القوات الكرية لمسافة عشرين ميلا فى عمق الأراضى السورية على امتداد الحدود التركية، بالإضافة إلى سحب القوات الأميركية المقرّر. وبذلك يتم إنشاء المنطقة الآمنة. مع ملاحظة أن عملية تنسيق العمل في تلك المتطقة سيتم ما بين تركيا وروسيا، باعتبار الأخيرة تمثل نظام بشار الأسد.
يبقى السؤال: لماذا اختلف تعامل ترامب مع "الحروب السخيفة" التي تجري في المنطقة العربية عموماً عن تعامله مع "الحرب الجريئة" التي شنّتها تركيا في المنطقة أيضاً؟
from صحيفة العربي الجديد – صحيفة الزمن العربي الجديد https://www.alaraby.co.uk/opinion/2019/10/23/الحروب-السخيفة-والحروب-الجريئة-1
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق