المقامة الفرزدقية - news

Home Top Ad

السبت، 1 فبراير 2020

demo-image

المقامة الفرزدقية

حدّثنا الحاجّي أبو همام، عن عيسى بن هشام، عن رجلٍ مُقَوَّصٍ مُخَرْدَق، قرأ هجاءَ جريرٍ للفرزدق (زعمَ الفرزدقُ أنْ سيقتلُ مَرْبَعَاً/ أبشرْ بطولِ سلامةٍ يا مربعُ)، فطرب من ذلك الهجاء، محطمِ الأنفة والكبرياء، واستلقى من توّه على السرير، وراح يفكّر بأمر جرير الذي أراد أن يُخضع خصمَه، ويمرّغ بالتراب خشمَه، فحقق من النجاح مراتب، وأنزل على شانئه المصائب، وكان عنده من المقدرة ما يحوله إلى مسخرة، ولو كان بينهما مصارعة، وبالشعر تجري المقارعة، لقلنا قد قضى عليه، أو أنه ثَبَّت كتفيه.
استيقظ الرجل المخردَق، المتحمّس لقصة الفرزدق، وفكّر في أن يستزيد من هذا الفن الفريد، ففتح الكومبيوترات المحمولة، وشغّل الآيبادات المقفولة، وفتّش عن الخيارات، فوجدها بالمئات، يحكي بعضُها عن المديح، على أنه شيء مليح، إذ ترى القصير طويلا، والقميءَ جميلا، والعليلَ يضجّ بالعافية، والأخرقَ سليمَ القافية، والأعمشَ ناعسَ الطرف، والمقبلَ راجعاً إلى الخلف، وتقول للكذّاب ما أصدقك، ولخصمه العاقل ما أحمقك، وللبخيل يا بنَ العز، تباً لشانئيك وطز، ومن باب الحذر والاحتياط، تقول عن الأمي "تكنوقراط".. ويشيد آخرُ بالفخر، بوصفه مقدمةً للنصر، فإذا كانت الأمة مهزومة، مريضةً بل مكلومة، عن شتى العلوم عازفة، وبأمراض البؤس نازفة، يرفعها الفخر إلى المعالي، في كل شأنٍ وحالِ، لتبدو أمجادُها التليدة، راقيةً على الأمم فريدة، مكانتها الأولى في العلوم، وفي الآداب فوق النجوم.. وأما عوالِم الهَجْو، فعلى غير هذا النحو، إذ تُظهر الكبير صغيرا، لتبدو أمامه كبيرا، فإن بَذَلَ تقول متظاهر، وإن أخلصَ فهو متآمر، لا تترك ستراً عليه، ولا توفر بالسباب والديه، ومن قبيل الهجو الفائض، هناك شعر النقائض، فبين الفرزدق وجرير، هجاءٌ وسبٌّ وتعزير، وثالثُهما المبجل، أبو مالك الأخطل، وشعر جرير كالسحر، كأنه يغرف من بحر، في قريضِه حدٌّ زائد، يهجو رجلين في بيت واحد: لما وضعتُ على الفرزدقِ ميسمي/ وضغا البعيثُ جدعتُ أنفَ الأخطلِ.
ما جرى لبطل القصة، وقد علقت في حلقه غصّة، أنْ تساءل عن الحكمة، في ترويج هذه النغمة، ولماذا نسهب في مديح الشعراء، ونعاملهم معاملة الأمراء، ونترك الإخوة القرّاء، مقصّرين في التلقي والفهم، وكأنهم مساطيلُ بُكْم؟ يا أخي، والله فهمنا، ومن منشوراتكم علمنا أن الفرزدق رعديد، يكتفي بإطلاق الوعيد، وأن جريراً مقدام، يقتل قبل أن ينام، فماذا عن المسكين مَربع، وقد تركتموه يتسكّع، لا نعرف شيئاً عن مصيره، أهاربٌ أم نائمٌ في سريره، أم كما تقول الحكاية، نجا من تلك الجناية، فيوم التهديد كان أعزب، عن الزواج نافر مُضْرِب، أشْعَرَهُ التهديد بالأمان، فاهتم فجأة بالنسوان، وراح يبحث عن عروس، تُؤانسه في زمن العبوس، تقول للقمر "غيبْ"، لأقعد مكانك كالرقيبْ، شعرها هفهاف، وجبينها شفّاف، ولا أجمل من ذلك الثغر، سوى البياض في النحر، والنحافة في الخصر. وأما العينان، فتبارك الرحمن.. وعندما عثر عليها، طلبها من والديها، فوافقوا عليه بسرعة، وزوّجوهما في غضون جمعة، إذ شعروا بالأمان المحقّق، مع تهديد صاحبنا الفرزدق.
تزوج صاحبنا مَربع، وبمباهج الحياة تمتع، وخلف الكثير من الصبيان، أصبح بعضُهم من الفرسان، وبناتٍ وافرات الجمال، عندهن من الحنان تلال، وصار عنده أحفاد، بين طيبين وأوغاد، ثم رُدَّ إلى أرذل العمر، ولم يمُت من شدّة القهر، بل شاب شعرُه، واحدودب ظهرُه، وتهدلّت رقبتُه، وتضخمت قيلتُه، وغاب عنه الانتعاش، وأقعدته العلل في الفراش، وصار عالةً على أهله، يأكل الطعام على مهله، من أصحاب الوزن الخفيف، يخاف من صوت الحفيف، إذا كلمته لا يسمع، وإذا أطعمته لا يبلع، يقسو بالدعاء على نفسه، مؤملاً الوصولَ إلى رمسه، ولا يتحقق مبتغاه، لأن الأعمار بيد الله.
قال الرجل المخردق، المُعجب بقصة الفرزدق، إن هذا ألْيَقُ بالفعل، كفانا الله شر القَتل!
.uk/File/GetImageById/c31d6a22-5b17-4f3c-a3cf-8db5ab069cf9/e08e82cb-9405-4f2a-9962-1455ff9dc5c6/image/800/


from صحيفة العربي الجديد – صحيفة الزمن العربي الجديد https://www.alaraby.co.uk/opinion/2020/2/1/المقامة-الفرزدقية-1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Bottom Ad

Pages