الجسدُ الوباء - news

احدث المواضيع

Home Top Ad

الاثنين، 30 مارس 2020

الجسدُ الوباء

يحرُن جسدُك. تحاول إقناعَه بحجج منطقيّة، فينقلب إلى جهةٍ معاكسةٍ رافضًا الإصغاء. تمازحُه محاولًا انتزاعَ ضحكةٍ منه. هيّا انهضْ يا كسول. لستُ كسولا يردّ. أنا فقط أريد أن أستقيل. أن أغيب. أن أتمدّد هنا، هكذا، بلا حراك. أريد ادّعاءَ الغياب. أنا لستُ هنا. أنا لستُ.. تلكزه، هيا انهض. هذه ألعابُ الصِّغار، وأنتَ ما عدتَ صغيرًا. بلى، أنا صغيرٌ. أنا ضئيلٌ. أنا هزيلٌ، حشرة، أنا لا شيء. تسحب اللّحافَ عنه. تنهره معاتبًا، ثمّة مهام عاجلة تنتظرُكَ، هيّا قُم. ينظر إليك هازئًا. تمسكه وترفعه غصبًا عنه. لا عمود فقريّ له. إنه أشبه ببزّاق ضخم يلتوي على ذاته. تضعه تحت رشّاشة الدشّ، تفتح عليه الماءَ غزيرًا، وفي النهاية، تفاجئه برشّة ماءٍ باردٍ فيشرئبّ.
يأكل جسدُك. يلوك الطعامَ الذي أعددتَه له منذ قليل. يبتلع. المسار الذي تسلكه اللقمةُ طارئٌ وغريب. الحلق، البلعوم، القصبة الهوائية، باب المعدة، المعدة، يا الله. كيفَ أصبح جسدُك شفّافا فجأة كأنّه من زجاج، وكيف بتَّ ترى وتسمع كلَّ ما يحدث في داخله. تجلس أمام شاشة جسدك، تُشرف على سير وظائفه كلّها. تتفقّد كلَّ عضوٍ فيه، تُصغي إلى نبض القلب، تحاور الرئتين، وتحثّهما على التنفّس ببطء. هيا، انتفخا يا عزيزتي، أجل، احبسا الهواء قليلا، نعم هكذا، والآن ازفراه. لا، لا، لا سُعال. السُعال ليس محمودًا لأنه سيسيئ الى سُمعتيكما. يجب أن تكثر من السوائل، تقول له. يجب أن تغرغر بالماء والملح. يجب أن تبتعد عن الآخرين. يجب أن تغسل يديك. يجب أن تجلس في الشمس 15 دقيقة كل صباح. يجب ألا تخاف. يجب أن تخاف. يجب أن تضع كمّامة. لا، الكمّامة لن تفيد. علّق ثيابَك في الشّمس والهواء. اخلع حذاءَك خارجًا. عليك بالفيتامينات. عليك بالعزلة، حبوبًا أم سوائل أم تحاميل. أجل، عزلة مشويَة، مقليَة، مسلوقة، لا يهمّ. عزلة بكل النكهات والتنويعات. المهم أن تُبقي عليها طازجة، وأن تملأ بها كلَّ المستوعبات وأمكنةَ الفراغ.
يأرق جسدُك. تأخذه بين ذراعيك. نَمْ يا حبيبي، لا تخفْ، سينقضي هذا اللّيلُ الطويل وقريبا ينبلجُ النُّور. أجل، ألقِ رأسَك على كتفي وارتاح، أو غلّ في صدري واغمضْ عينيك. أجل أنا هنا، بجانبك. ما رأيك أن نُحصي الأغنام؟ نعاجٌ جميلةٌ بيضاء صوفُها كالقطن الرّجراج، كالغيم الأبيض الذي يبهر ببريقه العينين. لا، أنتَ تفضّل أغنيةً على التّعداد؟ حسنا، سوف أنشد لك. "يللا ينام، يللا ينام، لاذبح له طير الحمام"... ما ذنبه طيرُ الحمام؟ السكين تمرّ على عنقه، فتفرّ منه الدماءُ ساخنةً وتملأ الفراشَ والملاءة وثيابَ النّوم. ياه، لا يني الطير يفرفر بجناحيه مرسلا دماءه رذاذا يطرطش الحيطان. حسنا، إنسَ الغناء، قُم لنشاهد التلفاز. الوحشُ الصغير ُ الخفيُّ يحتلّ الشاشات. أعداد مُصابيه. أعداد قتلاه. المدنُ الشبحيّة، المطفأة، العليلة. المدنُ الصامتة صمتَ القبور. الطرقات الفارغة، العساكر، الاستنفار. ثمّة حرب دائرة مع عدوّ ما. الكرة الأرضية ترتاح. الطبيعة تنتقم. الفضاء ينقى. الأوكسجين يعود. لا يجد جسدُك الأوكسيجين، نفَسه يضيق. العرقُ يغسل مسامَه. لا تخف أيها الجسد، نوبة ذعر لا أكثر، ارخِ قبضتيك، مدِّد رجليك. أجل، على مهل، بروية، بتؤدة، بهدوء...
يتحرّك جسدُك. في الأمتار القليلة التي تصنع منزلَك والشرفةَ التي تتبعه مطلّةً على الخارج. ذهابا وإيابا، فيما يحسب جهازُك الخلويُّ وتطبيقاتُه الذكيّة عددَ خطواتك. الجهاز يشجعّك، إنه صديقُك، وعدوّك، إنه الحيُّ الأخير. من الشرفة ترى شرفاتٍ فارغةً أخرى هجرها أهلوها إلى الدواخل، حيث لا عيون. التلفازُ مُخدِّرٌ مُفيد. ما زال أمامك ثمانية آلاف خطوة لتبلغ العددَ المطلوب، الرقمَ المثاليّ، الصحّي، القياسيّ. برافووووو. يصفّق لك الجهاز، غووووول يصرخ، فتمسكه وترميه بعيدا. ترميه بحساب، أجل، على الكنبة أو على سطحٍ طريّ. لا يمكنك أن تخاطر به، إذ لا خلاص لك من دونه. هاتفُك الصَّغيرُ هذا هو النافذةُ التي يدخلُ منها الهواءُ، الثقبُ الأسودُ الذي ابتلعَ ذات يومٍ عالمَك كلَّه، وراح، من حينٍ إلى آخر، يمنُّ عليك بقذف بعض الأغراض والأصوات والوجوه. يعود جسدُك إليه، يمسح على رأسِه ويطيبُّ خاطرَه. لا تزعل، من دونك أنا لا شيء، مركبةٌ فارغة سابحة في أثير انعدام الحياة.


from صحيفة العربي الجديد – صحيفة الزمن العربي الجديد https://www.alaraby.co.uk/opinion/2020/3/30/الجسد-الوباء-1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Bottom Ad

Pages