تونس.. منظومة الحكم وحتمية التعايش - news

احدث المواضيع

Home Top Ad

الأربعاء، 23 أكتوبر 2019

تونس.. منظومة الحكم وحتمية التعايش

عرَّفت السياسة الدولية مصطلح التعايش السلمي أنه قيام تعاون بين دول العالم، على أساس من التفاهم وتبادل المصالح الاقتصادية والتجارية. وقد ظهر بعد الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم إلى معسكرين. وتاريخيا، كان الزعيم السوفييتي، خروتشوف، قد دعا، عقب وفاة ستالين، إلى انتهاج سياسة تعايشية، تقوم على مبدأ قبول فكرة تعدد المذاهب الإيديولوجية والتفاهم بين المعسكرين في القضايا الدولية. علما أن جميع الأديان تدعو إلى التعايش السلمي في ما بينها، وتشجع لغة الحوار والتفاهم والتعاون بين الأمم المختلفة. وفي العصر الحديث، ظهر التعايش السياسي في فرنسا خصوصا، وتحديدا في ظل الجمهورية الخامسة، من أجل عدم التصادم بين رأسي السلطة التنفيذية، رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، في حال انتمائهما إلى لونين سياسيين مختلفين. وكان الرئيس الفرنسي الراحل، فرنسوا ميتران، أول من انصاع إلى هذا الخيار، تأثرا بما كان يدعو إليه خبراء السياسة الدولية والمحلية آنذاك، وأبرزهم الوزير آلان بيرفيت، الذي وضع كتابا خصّصه للتعايش السياسي، وأهدى نسخة منه لميتران لإقناعه به، معتبرا أن التعايش سيقوّي مؤسسات الجمهورية الخامسة. وفعلا، تعايش زعيم اليسار ورئيس الجمهورية، ميتران، مع رئيس حكومته، إدوارد بالادور، القادم من اليمين (1993 – 1995)، كما تعايش رئيس الجمهورية جاك شيراك، وهو زعيم اليمين الديغولي، مع رئيس الحكومة اليساري ليونال جوسبان (1997 – 2002). وبعيدا عن فرنسا، طبقت دول كثيرة مبدأ التعايش السياسي، ومن أشهرها فنلندا وأوكرانيا. 
وفي الحالة التونسية، ظهر مفهوم التعايش بعد انتخابات 2014، وفوز الرئيس الراحل الباجي  قايد السبسي في الانتخابات الرئاسية، وفوز حزبه، نداء تونس، في التشريعية بـ89 مقعدا. ولكن ذلك لم يمكّنه من الحكم بمفرده، كما لم يمكن حزبه من أن يشكل حكومةً تبعا لمقتضيات الفصل 89 من الدستور، ما جعل الرئيس السبسي يلجأ إلى التعايش مع بقية المكونات السياسية، وفي مقدمتها حركة النهضة والاتحاد الوطني الحر وحزب آفاق تونس، مكونا ائتلافا حكوميا رباعيا في مرحلة أولى ترأسته شخصية مستقلة (الحبيب الصيد)، ثم ائتلاف وحدة وطنية في مرحلة ثانية في صيف 2016 برئاسة يوسف الشاهد عن حزب نداء تونس، وقد عمّر هذا الائتلاف أطول فترة حكم بعد الثورة.
أما بشأن المشهد السياسي الراهن في تونس، وما أفضت إليه الانتخابات الرئاسية والتشريعية، فإن رئيس الجمهورية المنتخب، قيس سعيّد، يجد نفسه بلا كتلة برلمانية تدعمه، ولا حزب يقف وراءه، علاوة على أنه لم يقدّم برنامجا عمليا يخوض به غمار السلطة، ويمكّنه من إطلاق مبادراتٍ واقعيةٍ تساهم في تغيير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، ما جعل محللين ومتابعين يجمعون على أن ناخبيه، وهم قرابة ثلاثة ملايين، انتخبوا فكرة نبيلة، أو حلما طوباويا، ولم ينتخبوا شخصيةً يمكن أن تمارس الحكم حسب برنامج واضح المعالم قد يأخذ طريقه إلى الواقع. ولعل إيغال الرئيس الجديد في سياسة الصمت، وعدم الإفصاح عن رؤاه بوضوح، جعلت كثيرين يتوجهون إليه بتلك المقولة الشهيرة لسقراط "تكلم حتى أراك". أما المشهد البرلماني الجديد، فإن ما تميز به من تشتت وغياب لكتل وازنة يجعله يشكل وضعا يصعب معه تشكيل حكومة جديدة ومنحها الثقة في الآجال الدستورية.
ويجد حزب النهضة، الفائز الأول وصاحب الأغلبية في البرلمان (52 مقعدا)، نفسه في ظل وضعية التشتت، عاجزا بمفرده عن تشكيل الحكومة بمنأى عن مبدأ التعايش، والمضي في نسج تحالفاتٍ مع المكونات السياسية الأخرى الأقرب إليه، فحركة النهضة لا يمكنها أن تحكم بمفردها، أي برئيس حكومة منها، لتتحمّل المسؤولية كاملة خمس سنوات. وقد تكون قد انطلقت في اتصالاتٍ ومشاوراتٍ من أجل التوصل إلى شخصية مستقلة لرئاسة الحكومة، وتكليفها بتكوين حكومة ائتلافية، تشارك فيها بقية المكونات الأخرى، باستثناء حزب قلب تونس والحزب الدستوري الحر. وقد لمّح رئيسها راشد الغنوشي إلى ذلك، حيث صرّح بأن "الحكومة القادمة هي دستوريا حكومة النهضة، وستتحمل المسؤولية في ذلك، لأن الأصل أن تشكل النهضة الحكومة، والشعب هو الذي كلفنا بذلك، وسيسألنا عن هذه الأمانة التي حملنا إياها". لكنه استدرك بأن عدم حصول "النهضة" على أغلبية الأصوات "قد يدفع إلى حكومة ائتلافية، أو حكومة إنقاذ وطني، قد يكون رئيسها نهضويا أو مستقلا إذا كان ذلك هو الأنسب".
وبالعودة إلى تجربة سنوات الحكم الماضية، يرى خبراء القانون الدستوري أن النظاميْن، السياسي والانتخابي، المعتمديْن في تونس لا يسمحان لأي طرفٍ مهما كانت مشروعيته الشعبية أو قوته السياسية أو الحزام السياسي الذي يتمتع به داخل البرلمان وخارجه أن يحكم بمفرده، ناهيك عن إمكانية تطبيق برنامجه كاملا. وينطبق هذا على رئيس الجمهورية الحالي، وعلى حزب النهضة صاحب الأغلبية البرلمانية. وانطلاقا من الفصل 71 من الدستور، فإن رئيس الجمهورية يمارس السلطة التنفيذية مع رئيس الحكومة، كما عليه، أمام إكراهات الوضع الراهن، التعايش السياسي مع حركة النهضة التي ستكون صاحبة القرار الأول في اختيار رئيس الحكومة، شريك رئيس الجمهورية في الجهاز التنفيذي. كما يتحتّم على رئيس الجمهورية أن يتعايش مع بقية الكتل التي تشكل أغلبياتٍ محترمة، على غرار حزب قلب تونس والتيار الديمقراطي وائتلاف الكرامة وحركة الشعب والدستوري الحر وتحيا تونس.
رئيس الجمهورية، إذن، لن يحكم منفردا، ولن يلجأ إلى الشعب، لاقتراح مبادراته، كما يروج ذلك أنصاره وأوساط إعلامية مساندة له تفتقر إلى ثقافة دستورية، على الرغم من تخصص الرئيس  المنتخب في القانون الدستوري. يبدأ عهدته بأداء اليمين الدستورية أمام البرلمان، كما أن المبادرات التي سيتقدّم بها تستوجب ضرورة المصادقة بالأغلبية، وله أن يخاطب مجلس النواب تطبيقا للفصل 79 من الدستور. كما يمكّن الدستور أغلبية أعضاء مجلس نواب الشعب من تقديم لائحةٍ معللةٍ لإعفاء رئيس الجمهورية من أجل الخرق الجسيم له (الفصل 88). وفي المحصلة، يجب أن يعود الرئيس المنتخب بالأفكار التي طرحها في أثناء حملته الانتخابية إلى هذه الآليات، ومن أبرز عناوينها التعايش والتوافق مع بقية مكونات منظومة الحكم.
لم تعلن "النهضة" عن استراتيجيتها الخاصة بتشكيل الحكومة، ولكن تسريبات مؤكّدة تذهب إلى أن مشاوراتها في هذا المجال قد انطلقت لتحديد رؤيتها القائمة بالأساس على البرنامج الذي، كما تقول التسريبات، لا بد أن يكون واضحا على مستوى القضايا المركزية للبلاد، يعبر عن طموحات الناخبين وتطلعاتهم، بمعايير قابلة للنقاش، وفق تصريح القيادي في الحركة، عبد الحميد الجلاصي. وتفيد معطيات بأن الأطراف المعنية بالتشاور من أجل تشكيل الحكومة هي التيار الديمقراطي وائتلاف الكرامة وتحيا تونس وحركة الشعب، وكذلك مجموعة من المستقلين.
المتوقع ألا تسير هذه المشاورات في طريق معبدة، ذلك أن بعضها على الأقل قد رفع سقف شروط التفاوض، على غرار التيار الديمقراطي الذي اشترط تمكينه من وزارات الداخلية والعدل والإصلاح الإداري، وهو شرط لا يمكن أن تقبله "النهضة"، وخصوصا في ما يتعلق بوزارتي الداخلية والعدل. .. مسؤولية التفاوض، إذن، ثقيلة، والوصول إلى شاطئ السلامة بتشكيل الحكومة الجديدة يبدو صعبا، ما يؤكّد، مرة أخرى، ضرورة التزام الجميع بمبدأ التعايش سبيلا إلى التوافق والانفراج.


from صحيفة العربي الجديد – صحيفة الزمن العربي الجديد https://www.alaraby.co.uk/opinion/2019/10/23/تونس-منظومة-الحكم-وحتمية-التعايش-1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Bottom Ad

Pages