تؤكّد زيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، للسعودية والإمارات، في 14 و15 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أمريْن مترابطيْن: عودة الدب الروسي إلى الشرق الأوسط، كما يُلاحظ من رصد التقدم "النسبي" في مشروعات موسكو الإقليمية، وقدرتها على ملء فراغات التخبط والانكفاء الأميركييْن، اللذيْن تفاقما في عهد الرئيس دونالد ترامب. وأن ثمّة متغيراتٍ مهمة، تحدث في منطقتي الخليج والمشرق العربييْن خصوصاً، وفي العالم العربي وإقليم الشرق الأوسط عموماً، نتيجة عاملَي التخبط الأميركي وتصاعد التنافس على الصعيد العالمي بين ثلاثي واشنطن وموسكو وبكين، ما ينعكس إقليمياً في شكل "مرحلة انتقالية شديدة السيولة"، ويُنذر بفقدان السعودية، وأغلب الدول العربية، مزيداً من أوراق قوتها "المحدودة" أصلاً، ويفرض عليها قيوداً شديدة في حركتها الخارجية، بسبب تضعضع أوضاعها الداخلية. ويتيح، في المقابل، فرصاً أمام بعض القوى الدولية والإقليمية، خصوصاً روسيا وحلفاءها في المنطقة.
غنيٌّ عن البيان، أن سياسة بوتين تجاه السعودية والإمارات لا تخلو من أبعادٍ اقتصاديةٍ واستثماريةٍ وتوقيع اتفاقيات وصفقات تجارية، مع التأكيد أن موسكو هي المستفيد الأكبر في هذا الصدد؛ إذ تحصل على نصيبها من الثروات السعودية والإماراتية، دونما كثير تعبٍ، في توقيتٍ ملائم جداً، فبعد الهجمات على منشآت شركة أرامكو في المملكة في 14 سبتمبر/ أيلول الماضي، تسعى موسكو إلى توظيف هشاشة/ انكشاف الرياض وأبو ظبي، في مواجهة تهديدات طهران ومليشياتها في الإقليم، لكي تظهر روسيا بصورة الصديق/ الحليف الدولي، صاحب الحضور المؤثّر في الأزمات الإقليمية، على عكس واشنطن التي تخذل حلفاءها وقت الضيق. وفي هذا السياق، ثمّة ثلاث ملاحظات لفهم سياق التغير الراهن في علاقات موسكو - الرياض، وفي العلاقات الروسية العربية إجمالاً:
أولاها أن روسيا هي الطرف الأقوى في العلاقة مع أية دولة عربية. ولذا، فإنه ليس بمقدور الرياض، ولا أية عاصمة عربية أخرى، تغيير أجندة موسكو في "المسألة السورية"، بعد اكتفاء العرب بظاهرة "المناكفة الصوتية" ضد التدخل التركي الراهن في شمال سورية. وهذا يعني أن روسيا تمسك "زمام المبادرة" في العلاقات مع السعودية، وتملك أوراقاً أكبر للضغط والمساومة، في كل الملفات الإقليمية تقريباً. وعلى الرغم من محدودية الثقة الخليجية بموسكو، فإن الرياض وأبو ظبي تفضّلان النفوذ والتحكم الروسييْن في سورية، على أية أدوار لإيران أو تركيا هناك، لكون الأخيرة تعبّر عن مشروعاتٍ إقليمية دائمة، وليست سياساتٍ آنية/ مؤقتة.
واستطراداً، قد يمكن القول إن تأثير البعد الدولي، وخصوصاً الأميركي، على علاقات موسكو الرياض، يتضاءل تدريجاً، فيما يتصاعد تأثير البعد الإقليمي عليها؛ إذ إن رؤية روسيا في الإمساك بمفاصل الموضوع السوري، عبر الوجود العسكري المباشر، فضلاً عن إقامة علاقاتٍ قوية مع إيران وتركيا وإسرائيل، وهي أكثر القوى الإقليمية تأثيراً في الشرق الأوسط، كل هذه العوامل أصبحت تؤثر في العلاقات الروسية السعودية، وفي توازنات القوى أيضاً.
الملاحظة الثانية، وضوح "الرؤية الروسية"، في ظل قيادة بوتين منذ أواخر عام 1999، مقابل انعدام الرؤية السعودية، في إعادة بناء القوة الذاتية، ومباشرة الإصلاح السياسي والاقتصادي، وامتلاك مزيدٍ من أوراق الضغط والمساومة، وإمكانية تحسين المكانة الإقليمية، وهو الأمر الذي تفاقم بعد تولي محمد بن سلمان ولاية العهد، منتصف عام 2017.
لقد تحرّكت موسكو بقوةٍ منذ تولي الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، الذي انتهج مقاربةً "انكفائية"، نتيجة تراجع بعض عناصر القوة الاقتصادية لبلاده. وهكذا تقاربت روسيا مع عدة دول لإعادة ترتيب تحالفاتها الإقليمية، خصوصاً في مناطق النفوذ الروسي التقليدية، بداية من جورجيا صيف 2008، ثم أوكرانيا والقرم في عام 2014، ثم التدخل العسكري الروسي في سورية أواخر سبتمبر/ أيلول 2015. فضلاً عن توطيد موسكو علاقاتها مع دول آسيا الوسطى والقوقاز، ودول ذات أهمية في إقليم الشرق الأوسط (مثل: تركيا وإيران وإسرائيل ومصر)، انطلاقاً من فكرة إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية، بهدف التأثير في التوازن الاستراتيجي العالمي.
وعلى النقيض من ذلك، أهدر محمد بن سلمان، منذ أصبح وزيراً للدفاع في عام 2015، أوراق القوة السعودية "المحدودة" أصلاً، عبر الانغماس في "مغامراتٍ إقليمية غير محسوبة": بدايةً من الحرب المدمّرة في اليمن، وحصار قطر، ومروراً بتوتير علاقات الرياض مع الكويت ومسقط، والانخراط القوي في دعم نظم الثورات المضادة، ولا سيما في مصر والسودان وليبيا، والانجرار إلى تصعيدٍ كارثي مع كل من تركيا وإيران، وليس انتهاءً بتطبيع "عبثي/ مجاني" مع إسرائيل.
وتتعلق الملاحظة الثالثة بضعف إرادة الرياض في الخروج من عباءة واشنطن التي أرسلت أخيراً ثلاثة آلاف جندي إضافي إلى السعودية في مهمة دفاعية، في مسعى إلى ابتزاز أموال أخرى، على الرغم من ظهور عدم رغبة واشنطن في أية مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران، الخصم الإقليمي اللدود للرياض.
وعلى الرغم من الأبعاد الإعلامية والاحتفالية التي صاحبت زيارة الرئيس بوتين للسعودية، فذلك لا يقارن مطلقاً بما فعلته الرياض إبّان زيارة الرئيس الأميركي ترامب في مايو/ أيار 2017. أضف إلى ذلك أن تراجع مكانة السعودية إقليمياً ودولياً، خصوصاً في عهد محمد بن سلمان، يحرمها إمكانية الاستفادة من "تنويع" علاقاتها الخارجية، وصولاً إلى موسكو وبكين وطوكيو ونيودلهي... إلخ، فبقدر متانة البناء الداخلي، يكون إنجاز السياسة الخارجية في تحصيل مكاسب أكثر للدولة السعودية.
ولكي تتضح الصورة أكثر، يمكن مقارنة عجز الرياض، بما تفعله أنقرة من ضغطٍ على واشنطن ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، عبر عدة أدوات، ومنها: اقتناء منظومة صواريخ S – 400 الروسية، شنّ عملية "نبع السلام" شمال سورية، التنسيق بصورة أكبر مع موسكو في الملف السوري.
أما عن مستقبل العلاقات بين موسكو والرياض، في المدى الاستراتيجي، وبغضّ النظر عن حدوث "تقارب نسبي" بينهما، فإنها علاقات آنية لا تتوافر على متطلبات "الشراكة الاستراتيجية"، ولا سيما في جانبها القيمي؛ فالطرفان يتحرّكان تجاه بعضهما في إطار ضيق ومحدود؛ فالرياض تضع مجمل علاقاتها مع روسيا في إطار الدور المأمول من موسكو في كبح طموح إيران الإقليمي وتدخلاتها في الشأن العربي والخليجي، وهو طموحٌ تراه السعودية تهديداً خطيراً لها. وفي المقابل، تختزل روسيا علاقاتها مع السعودية في تحقيق أكبر قدر من المكاسب المالية، من خلال استثمارات في النفط والغاز والتكنولوجيا، والرغبة في زيادة المبيعات العسكرية الروسية.
ويبقى القول إن البعد الثنائي في العلاقات، وخصوصاً الشق الاقتصادي/ النفطي، أصبح يتقدّم على أية قضايا سياسية تتعلق بالقضايا العربية، وهذا يعني تضاؤل تأثير "الأيديولوجيا" في العلاقات، وبداية "حقبة البراغماتية" في السياستين، الروسية والسعودية، في غياب أية قيادة سعودية قادرة على الاستجابة للمتغيرات العالمية والإقليمية، ما يضع الخليج والعالم العربي في مهبّ تحولاتٍ عاصفة.
أولاها أن روسيا هي الطرف الأقوى في العلاقة مع أية دولة عربية. ولذا، فإنه ليس بمقدور الرياض، ولا أية عاصمة عربية أخرى، تغيير أجندة موسكو في "المسألة السورية"، بعد اكتفاء العرب بظاهرة "المناكفة الصوتية" ضد التدخل التركي الراهن في شمال سورية. وهذا يعني أن روسيا تمسك "زمام المبادرة" في العلاقات مع السعودية، وتملك أوراقاً أكبر للضغط والمساومة، في كل الملفات الإقليمية تقريباً. وعلى الرغم من محدودية الثقة الخليجية بموسكو، فإن الرياض وأبو ظبي تفضّلان النفوذ والتحكم الروسييْن في سورية، على أية أدوار لإيران أو تركيا هناك، لكون الأخيرة تعبّر عن مشروعاتٍ إقليمية دائمة، وليست سياساتٍ آنية/ مؤقتة.
واستطراداً، قد يمكن القول إن تأثير البعد الدولي، وخصوصاً الأميركي، على علاقات موسكو الرياض، يتضاءل تدريجاً، فيما يتصاعد تأثير البعد الإقليمي عليها؛ إذ إن رؤية روسيا في الإمساك بمفاصل الموضوع السوري، عبر الوجود العسكري المباشر، فضلاً عن إقامة علاقاتٍ قوية مع إيران وتركيا وإسرائيل، وهي أكثر القوى الإقليمية تأثيراً في الشرق الأوسط، كل هذه العوامل أصبحت تؤثر في العلاقات الروسية السعودية، وفي توازنات القوى أيضاً.
الملاحظة الثانية، وضوح "الرؤية الروسية"، في ظل قيادة بوتين منذ أواخر عام 1999، مقابل انعدام الرؤية السعودية، في إعادة بناء القوة الذاتية، ومباشرة الإصلاح السياسي والاقتصادي، وامتلاك مزيدٍ من أوراق الضغط والمساومة، وإمكانية تحسين المكانة الإقليمية، وهو الأمر الذي تفاقم بعد تولي محمد بن سلمان ولاية العهد، منتصف عام 2017.
لقد تحرّكت موسكو بقوةٍ منذ تولي الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، الذي انتهج مقاربةً "انكفائية"، نتيجة تراجع بعض عناصر القوة الاقتصادية لبلاده. وهكذا تقاربت روسيا مع عدة دول لإعادة ترتيب تحالفاتها الإقليمية، خصوصاً في مناطق النفوذ الروسي التقليدية، بداية من جورجيا صيف 2008، ثم أوكرانيا والقرم في عام 2014، ثم التدخل العسكري الروسي في سورية أواخر سبتمبر/ أيلول 2015. فضلاً عن توطيد موسكو علاقاتها مع دول آسيا الوسطى والقوقاز، ودول ذات أهمية في إقليم الشرق الأوسط (مثل: تركيا وإيران وإسرائيل ومصر)، انطلاقاً من فكرة إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية، بهدف التأثير في التوازن الاستراتيجي العالمي.
وعلى النقيض من ذلك، أهدر محمد بن سلمان، منذ أصبح وزيراً للدفاع في عام 2015، أوراق القوة السعودية "المحدودة" أصلاً، عبر الانغماس في "مغامراتٍ إقليمية غير محسوبة": بدايةً من الحرب المدمّرة في اليمن، وحصار قطر، ومروراً بتوتير علاقات الرياض مع الكويت ومسقط، والانخراط القوي في دعم نظم الثورات المضادة، ولا سيما في مصر والسودان وليبيا، والانجرار إلى تصعيدٍ كارثي مع كل من تركيا وإيران، وليس انتهاءً بتطبيع "عبثي/ مجاني" مع إسرائيل.
وتتعلق الملاحظة الثالثة بضعف إرادة الرياض في الخروج من عباءة واشنطن التي أرسلت أخيراً ثلاثة آلاف جندي إضافي إلى السعودية في مهمة دفاعية، في مسعى إلى ابتزاز أموال أخرى، على الرغم من ظهور عدم رغبة واشنطن في أية مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران، الخصم الإقليمي اللدود للرياض.
وعلى الرغم من الأبعاد الإعلامية والاحتفالية التي صاحبت زيارة الرئيس بوتين للسعودية، فذلك لا يقارن مطلقاً بما فعلته الرياض إبّان زيارة الرئيس الأميركي ترامب في مايو/ أيار 2017. أضف إلى ذلك أن تراجع مكانة السعودية إقليمياً ودولياً، خصوصاً في عهد محمد بن سلمان، يحرمها إمكانية الاستفادة من "تنويع" علاقاتها الخارجية، وصولاً إلى موسكو وبكين وطوكيو ونيودلهي... إلخ، فبقدر متانة البناء الداخلي، يكون إنجاز السياسة الخارجية في تحصيل مكاسب أكثر للدولة السعودية.
ولكي تتضح الصورة أكثر، يمكن مقارنة عجز الرياض، بما تفعله أنقرة من ضغطٍ على واشنطن ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، عبر عدة أدوات، ومنها: اقتناء منظومة صواريخ S – 400 الروسية، شنّ عملية "نبع السلام" شمال سورية، التنسيق بصورة أكبر مع موسكو في الملف السوري.
أما عن مستقبل العلاقات بين موسكو والرياض، في المدى الاستراتيجي، وبغضّ النظر عن حدوث "تقارب نسبي" بينهما، فإنها علاقات آنية لا تتوافر على متطلبات "الشراكة الاستراتيجية"، ولا سيما في جانبها القيمي؛ فالطرفان يتحرّكان تجاه بعضهما في إطار ضيق ومحدود؛ فالرياض تضع مجمل علاقاتها مع روسيا في إطار الدور المأمول من موسكو في كبح طموح إيران الإقليمي وتدخلاتها في الشأن العربي والخليجي، وهو طموحٌ تراه السعودية تهديداً خطيراً لها. وفي المقابل، تختزل روسيا علاقاتها مع السعودية في تحقيق أكبر قدر من المكاسب المالية، من خلال استثمارات في النفط والغاز والتكنولوجيا، والرغبة في زيادة المبيعات العسكرية الروسية.
ويبقى القول إن البعد الثنائي في العلاقات، وخصوصاً الشق الاقتصادي/ النفطي، أصبح يتقدّم على أية قضايا سياسية تتعلق بالقضايا العربية، وهذا يعني تضاؤل تأثير "الأيديولوجيا" في العلاقات، وبداية "حقبة البراغماتية" في السياستين، الروسية والسعودية، في غياب أية قيادة سعودية قادرة على الاستجابة للمتغيرات العالمية والإقليمية، ما يضع الخليج والعالم العربي في مهبّ تحولاتٍ عاصفة.
from صحيفة العربي الجديد – صحيفة الزمن العربي الجديد https://www.alaraby.co.uk/opinion/2019/10/23/زيارة-بوتين-والعلاقات-الروسية-السعودية-1
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق