قوّةُ الانسجام تُحرّك العالم - news

احدث المواضيع

Home Top Ad

الأحد، 29 ديسمبر 2019

قوّةُ الانسجام تُحرّك العالم

ليس القرينُ ذلك الشيطان الذي يقف على كتفيك، ليُلحّ في تحقيق رغباتك السرّية، أو يحرضك على ما لا تجرؤ على قوله أو فعله. ولا هو جانبك السيّئ الذي يدفعك إلى الشرود، والذي تتخيّله بعينين تتقدان بالأحمر، وقرنين ينتصبان على رأسه، كعلامتين فارقتين لجنسه، وماهيته. بل للقرينِ وجوه، بعضُها بشري، حين تجد روحاً تشبهك، فتصادقها، أو تقع في غرامها لأنّها تذكّرك بشيء، أو جزءٍ فيك تحبّه.
إنّها الرّوحُ الشقيقة التي قد تشبهك بشكل دائم، أو مؤقّت؛ فحين تتغيّر أنت أو صاحب الروح، تفقدان الصّلة الخفية بينكما، ذلك الذي لا يُفسّر بينكما يختفي فجأة، ولا تجدانه، وكثيراً ما يحدث ذلك، في الزّواج والصّداقة. ونادراً ما تستمرّ العلاقة بالنّفس ذاته، لأنّ من النادر أن تبقى هذه الصّلة التي تفترضُ ثباتاً في الشخصية، وهو الأمر الذي يناقضُ طبيعة الإنسان المتغيّرة، وغير الثابتة أبداً.
هل يوجد حقاً شيء اسمه توأم الرّوح؟ هذا الوصفُ الذي لم يعد يتحدّث عنه أحد، بينما يبحثون عنه جميعاً خفية، أو على الأقلّ ينتظرونه. هناك شيءٌ خفيّ، خلف كلّ كلمةٍ ينطق بها شخص ما، دافع خفيّ أشبه بانتظار غودو (مسرحية بيكيت)؛ حيث نصطفُّ جميعاً في قاعة انتظار ضخمة، ننتظر حلاً، أو شخصاً يفهم ما نحن عليه، من دون أن نتحدّث عنه، بل ومن دون أن  نعرف نحن ما هو؛ إنّه نصفنا الثاني الذي يعرف ما نحن عليه بالضّبط، لأنّه يبحث عنه.
في كثير من لقاءاتي بصديقات لهنّ وضع مهني جيد، استطعن من خلاله تحقيق مستوى مادي مريح، ألاحظ أنهنّ غير سعيدات، في مجتمعٍ لا يواكب ما حقّقنه بعين الرّضى، أو لا يُنظر إليهن فيه بالتقدير الذي يستحققنه. والأسوأ أنّهن يجدن صعوباتٍ كبرى في العثور على شريك يقدّرهن. ويفسرن ذلك بأنّ تطوّر مثيلاتهن من النّساء فكرياً على مستوى تحرير وعيهن بذواتهن، لم يواكبه تحرّر على المستوى نفسه لدى الرّجل الذي على الرغم من تعليمه العالي ومستواه الاجتماعي، ما زال ينظر إلى المرأة رديفاً لا غير، يتمسّك به من الخلف، لكيلا يقع عن ظهر دابّة الحياة. وعندما يرتبط بإحداهن، يحافظ على طريقة عيشه التي تشبه عيش الرّجل غير المتعلّم، يذهب إلى العمل، ثم إلى المقهى، أو الجمعية أو الحزب، أو لحضور نشاط ثقافي أو فني، ليجلس مع رفاقٍ ذكور. وينظر إلى المرأة شريكة سكن وفراش، مشروع أسرة وأولاد. ولم يستطع بعد النّظر إليها شريكة حياة، بذلك المعنى الذي يعني تشارك الأعباء المنزلية، والمسرّات وأوقات الخروج.
بينما استطاع الرّجل الأوروبي أن يحرّر نظرته إلى المرأة من جانب الأدوار على الأقل، فهو  لا يرى أنّ الأعمال المنزلية من واجب المرأة التي حتىّ لو اشتغلت خارج البيت، يبقى عمل البيت والاهتمام بالأولاد واجباً عليها، بما أنّها تعرفه أكثر، أو بما أنّ الطّبيعة اختارت لها أن تُنجب، عليها أن تتحمّل حظّها من "روليت" الحياة العبثية.
إنّها مفارقاتٌ كبرى تعيش فيها المرأة، وسط ازدواجية رؤية الرّجل الشرقي لها، هي التي عليها أن تعمل الآن لتشاركه أعباء الحياة، ثم تعمل في البيت لأنّه لا يعرف، وبحاجة إلى الرّاحة، ثم تهتمُّ بالأولاد. بشكل عام، تجد أنه، في نهاية الأمر، المطلوب من المرأة أن تكون كائناً خارقاً، لتواجه ذلك كله. وطبعاً سرعان ما تشيخ، ويهبط مؤشّر اهتمامها بنفسها إلى أدنى درجة، فيبحث الرّجل عن أخرى لا تحمل كلّ هذه الأعباء، لتكون حبيبةً وعشيقة، فتاة شابة لم تطحنها بعد أعباء الحياة.
لهذا، فطالما لم تتحقّق المشاركة والمساواة داخل الأسرة، اللّبنة الأولى للجماعة، لن تتحقّق في الخلايا الأوسع في المجتمع. وهنا يطرح السُّؤال بشأن الطريقة التي أَجبرت بها المرأة الغربية الرّجل على تقبُّل فكرة المشاركة، وتجاوز فكرة الكائن النّاقص على الأرض. وكيف علينا، في هذا الجزء من الكرة الأرضية، أن نتعلّم، لنتفادى أخطاءً تاريخية مُكلفة، فمقارنة مع المرأة في الجانب الآخر من العالم، هناك فرقٌ هائل، تُسأل عنه المرأة بقدر الرّجل، فهو لا يصبح مستبدّاً من تلقاء نفسه، بل تُسهم في المسؤولية عن ذلك؛ بالسّماح له بذلك، وبلعب دور الضّحية عن  طيب خاطر؛ فالحرّية مكلّفة، ولا تأتي من تلقاء نفسها، بل تُؤخذ وتُستحق، والتّاريخ شاهد على ذلك، وعلى الاعتراف التّدريجي من الرّجل بحقوق المرأة، على مضضٍ ربما، لكنّه مضطر ليحتفظ بها إلى جانبه، فالفقدان أسوأ ما يخاف منه الإنسان، كيفما كان جنسه.
كل شيء يكتسب بصعوبة للمرأة، ويحتاج أجيالاً مختلفة ليتحقّق التنازل عند الرّجل، من أجل تغيير نظرته إليها، خاصة إذا لم تبذل جهداً في ذلك. حتّى كانط، فيلسوف الأخلاق، كان رافضاً حق التّصويت للمرأة، ليس فقط بسبب انعدام مسؤوليتها عن نفسها مادياً واجتماعياً، ولكن أيضاً لأنّها وُلدت امرأة، لا يحقّ لها ذلك إلى الأبد. ثم هدّأ قليلاً من أحكامه، وافترض أن دونيّتها هي النّتيجة الطبيعية للقيود، والتّلاعب الذكوري، قبل أن يتراجع عن ذلك لاحقاً. يقدّم هذا كلّه صورة عن سوء الفهم الذي عاش فيه الجنسان، مع أن معرفة الذات تقود إلى معرفة الآخر، وتصالح كل من الرجل والمرأة مع النّصف الثاني في شخصيته، "الذكورة في المرأة" و"الأنوثة في الرجل"، قد يقودهما إلى فهمٍ أفضل.
ذلك أن القرين، أو النّصف البشري لنا، لا يتأتّى لنا اللقاء به، إلّا بالفهم واستيعاب الآخر. وكم هو ملهمٌ في هذا الجانب الموسيقي الصّوفي، القادم من سحر الهند، عنايات خان، كتب مرة عن سيكولوجية القلب، أنّه "بمجرد أن يبدأ الإنسان معرفة أن حياة القلب ظاهرة مستمرة، تصير كلّ لحظة في الحياة معجزة. إذ يلقي ذلك ضوءاً ساطعاً على الطّبيعة البشرية، وتغدو الأشياء جميعها بمنتهى الوضوح له، إلى حد أنّه لا يبحث عن أيّ ظاهرةٍ أعظم أو معجزة. وما يسمّونه التّخاطر، أو قراءة الأفكار، أو الاستبصار، هذه الأشياء جميعاً تحدُث ذاتياً عندما يكون قلبك مفتوحاً".
ولانجراف عنايات، أمام نظرية "افتح قلبك"، قدّم رؤية جديدة للموسيقى، والحياة في كتابيه: "The Music of Life" و"The Mysticism of Sound and Music"، التي يصفها بأنّها "تعبيرٌ قصيرٌ عن الانسجام الكامل، الذي يغمر الكون بأسره. وهذا هو سرّ القوة المذهلة التي تحرّك العالم"، كما تحدث عن ذلك في كتابه الثاني.
بهذا يمكن النّظر إلى القرين البشري، أو توأم الرّوح، نتيجة لانفتاح القلب والحواس، على اللّامرئي في الحياة، على الهارموني والانسجام اللّذين يقفان خلف كلّ خلية، وحركة في الكون، من أجل أن نجد أنفسنا فيهما، ويعثر علينا الشّبيه، مثلما نفعل بيسرٍ شديد؛ كأنّنا نوتتان موسيقيتان، لا ذاتان تائهتان في غابة الحياة.


from صحيفة العربي الجديد – صحيفة الزمن العربي الجديد https://www.alaraby.co.uk/opinion/2019/12/29/قوة-الانسجام-تحرك-العالم-1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Bottom Ad

Pages